بسم الله الرحمن الرحیم
استشهاد نحاة به قراءات و عدم استشهاد به حدیث
فهرست مباحث علوم قرآنی
تعارض بین نحو و قرائات
تواتر قراءات سبع
شواهد اعتماد قراءات بر سماع-عدم اختلاف در مواضع امکان اجتهاد
قول ابوبکر ابن عیاش قراءة حمزة بدعة-ابن حنبل یکره
اعتراضات به قراء
کلمات زمخشري در باره قراءات
کلمات شیخ رضی الدین نجم الأئمة قده در باره قراءات
عرض قرائت حمزة الزیات محضر امام صادق ع و موارد مخالفت حضرت با او
إن ورشا لما تعمق في النحو اتخذ لنفسه مقرأ يسمى مقرأ ورش
دفاع بی نظیر صاحب مجمع البیان از ابوعمرو بصری و اینکه به هیچ وجه اجتهاد در قرائت نمیکند
مقدمه کتاب دراسات لاسلوب القرآن الکریم-ابن عضیمة
کلمات فراء در باره قراءات-لست أشتهی-لست أجترئ أن اخالف الکتاب
كلمات سيبويه در باره قراءات
قول ابوبکر ابن عیاش قراءة حمزة بدعة-ابن حنبل یکره
نقد بسیار تند ابن جزری سخن ابوشامه در المرشد الوجیز-عدول زرقانی از همراهی ابوشامه
شرح حال محمد بن عبد الخالق بن علي بن عضيمة-دراسات لأسلوب القرآن الكريم(1328 - 1404 هـ = 1910 - 1984 م)
مقدمه کتاب دراسات لاسلوب القرآن الکریم-ابن عضیمة
در کتاب دراسات لاسلوب القرآن الکریم به تفصیل راجع به تلحین نحاة و رد آنها صحبت شده است فراجع.
مجلة الرسالة/العدد 654/حول تعقيب
ومن هنا كان استشهادنا بكلمة الشاطئ وقولنا: إنه لا يكاد يوجد حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، وقد سبقنا إلى هذا القول ابن الصلاح فقال في المتواتر: (إنه لا يكاد يوجد في رواياتهم ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروي من أهل الحديث أعياه تطلبه).
على أنا نزيد الأمر توكيداً فنسوق بعض ما قاله أئمة النحو في سبب عدم إثبات القواعد النحوية بألفاظ الحديث، لأنها لم تتواتر عن النبي.
قال السيوطي في الاقتراح: وأما كلامه ﷺ، فيستدل منه بما يثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جداً، وإنما يوجد في الأحاديث القصار على قلقة أيضاً، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون فرووها بما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ. . . ومن ثم أنكروا علي ابن مالك إثباته القواعد النحوية بألفاظ الواردة في الحديث.
وقال أبو حيان في شرح التسهيل: قد أكثر هذا المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب: كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر والخليل، وسيبوبه منأئمة البصريين، والكسائي والفراء وعلي بن مبارك الأحمر، وهشاماً الضرير من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرين من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس. . .) وقد قالوا: (إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم بأن ذلك لفظ الرسول إذ لو وثقوا بذلك لجري مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية، وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه ﷺ، ولم تنقل بتلك الألفاظ جميعها نحو ما روى في قوله: (زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك، خذها بما معك)، وغير ذلك من الألفاظالواردة في هذه القصة، فنعلم يقيناً أنه ﷺ لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ،، بل لا نجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ غيرها فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب، ولاسيما مع تقادم السماع وعدم ضبطه بالكتابة والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ، فبعيد جداً لاسيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى!
الثاني: إنه وقع اللحن كثيراً فيما روى من الأحاديث، لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون ذلك، وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا من غير شك أن رسول الله كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها. . .
وقال ابن الأنباري في الإنصاف في منع (أن) في خبر كاد، وأما حديث كاد الفقر أن يكون كفراً، فإنه من تغيرات الرواة لأنه ﷺ أفصح من نطق بالضاد.
ومن قول الشاطبي في شرحه على ألفية ابن مالك:
(. . . إن النحاة يستشهدون بكلام سفهاء العرب وأجلافهم وبأشعارهم التي فيها الخني والفحش ولا يستشهدون بالحديث. ثم روى عن أبي حاتم عن الجرمي أنه أتاه أبو عبيده معمر بن المثنى بشيء من كتابه في تفسير غريب القرآن الكريم قال: فقلت له عمن أخذت هذا يا أبا عبيده، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟ فقال: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم! فإن شئت فخذ وإن شئت فدع. . . ثم قال: ولا أعرف لابن مالك سلفاً إلا ابن خروف.
نجتزئ بما نقلناه من أقوال هؤلاء الأئمة، لأن الكلام في ذلك يطول:
الكتاب: البحث اللغوي عند العرب
المؤلف: د أحمد مختار عبد الحميد عمر
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: الثامنة 2003
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
الباب الأول: دراسات تمهيدية
الفصل الأول: مصادر اللغويين العرب
القرآن الكريم
...
الباب الأول: دراسات تمهيدية
الفصل الأول: مصادر اللغويين العرب
من الممكن حصر المصادر التي استقى منها اللغويون العرب مادتهم فيما يأتي:
1- القرآن الكريم.
2- القراءات القرآنية.
3- الحديث النبوي.
4- الشعر.
5- الشواهد النثرية.
وإن وجد بينهم خلاف حول بعضها. وإليكم بيان ذلك:
1- القرآن الكريم:
وقد اعتبروه في أعلى درجات الفصاحة، وخير ممثل للغة الأدبية المشتركة، ولذا وقفوا منه موقفًا موحدًا فاستشهدوا به، وقبلوا كل ما جاء فيه، ولا يعرف أحد من اللغويين قد تعرض لشيء مما أثبت في المصحف بالنقد والتخطئة1. ويقول الراغب الأصفهاني في كتابه "المفردات" مبينًا قيمة اللفظ القرآني: "ألفاظ القرآن الكريم هي لب كلام العرب
__________
1 بل كانوا يدافعون عن النص القرآني ضد ما يوجه إليه من شبهات كما فعل ابن هشام في "شذور الذهب" حين نقل ما يروى عن عثمان أنه قال: "إن في المصحف لحنًا وستقيمه العرب بألسنتها". وما يروى عن عائشة أنها قالت: "هذا خطأ من الكاتب" "في قوله تعالى: "والمقيمين" و "الصابئون" و"إن هذان" فقد ذكر أن الخبر باطل لوجوه منها:
أ- أن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات فكيف يقرون اللحن في القرآن؟.
ب- أن العرب كانت تستقبح اللحن فكيف لا تستقبحه في القرآن؟
ج- أن المصحف يطلع عليه العربي وغيره.
د - أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب "التابوه" بالهاء فأمره عثمان أن يكتبها بالتاء على لغة قريش.
هـ- أن عمر بلغه قراءة ابن مسعود "عتى" فأمره أن يدعها ويقرئ الناس بلغة قريش فإن الله إنما أنزله بلغتهم، "شرح شذور الذهب بحاشية الأمير، ص 18".
(1/17)
*************
وزبدته، وواسطته، وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء ... وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء ... وما عداها ... كالقشور والنوى بالاضافة إلى أطايب الثمرة".
والمراد بالقرآن النص القرآني المدون في المصحف، وهو غير القراءات، يقول الزركشي في "البرهان": "القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان. فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- للبيان والإعجاز.
والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما ... "1. ويقول الآمدي في "الإحكام": "أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه: هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلًا متواترًا"2.
ومن الحقائق المسلمة أن القرآن نزل أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرأوه بلغتهم. ولم يكلف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة3، وكانت الإباحة بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام وذلك بعد الهجرة4. فلما جاء عثمان وأراد جمع القرآن في المصاحف ونسخها "اقتصر من سائر اللغات على لغة قريش"5، ولذلك "جعل مع زيد النفر القرشيين لئلا يكون شيء من القرآن مرسومًا على غير لغتهم"6. وقال عثمان للقرشيين.
"إن اختلفتم في شيء أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه على لسان قريش فإنما نزل بلسان قريش"7.
__________
1 البرهان 1/ 318.
2 الأحكام 1/ 228.
3 القراءات واللهجات، ص 8.
4 النووي على مسلم 6/ 103.
5 الإتقان 1/ 63.
6 المقنع ص 109.
7 المرجع ص 5.
(1/18)
*************
2- القراءات القرآنية:
وهي الوجوه المختلفة التي سمح النبي بقراءة نص المصحف بها قصدًا للتيسير، والتي جاءت وفقًا للهجة من اللهجات العربية. يقول ابن الجزري في كتابه "النشر"1: "فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها، وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها ... حيث أتاه جبريل فقال له: "إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أسأل الله معافاته ومعونته إن أمتي لا تطيق ذلك، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف".
ويقول: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها عربيها وعجميها، وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها أو من حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولا بالتعليم والعلاج لا سيما الشيخ والمرأة، ومن لم يقرأ كتابًا ... فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع، وما عسى أن يتكلف وتأبى الطباع".
ثم ينقل ابن الجزري عن ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن" قوله: "فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يُقرئ كل أمة بلغتهم وما جرت عليه عادتهم: فالهذلي يقرأ "عتى حين"
__________
1 النشر 1/ 22.
(1/19)
*************
يريد "حتى" ... والقرشي لا يهمز. والآخر يقرأ "قيل لهم" و"غيض الماء" بالإشمام ... وهذا يقرأ "عليهم" و"منهم".. والآخر يقرأ "عليهمو ومنهمو" بالصلة ... إلى غير ذلك.. ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلًا وناشئًا وكهلًا لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه".
شروط قبول اللغويين للقراءة:
يحتاج موقف اللغويين من القراءات القرآنية وشروط قبولهم لها إلى توضيح، لأن هناك خلطًا كثيرًا وقع في هذه القضية. وأحب بادئ ذي بدء أن أميز بين منهجين مختلفين وموقفين متباينين من القراءات القرآنية:
أولهما: موقف القراء وعلماء الأصول.
والآخر: موقف اللغوييين والنحاة.
الفريق الأول حكمته النظرة إلى القراءة باعتبارها وسيلة تعبد وتقرب إلى الله، وشرطًا لصحة الصلاة، ومصدرًا للتشريع.
أما الفريق الثاني فقد حكمته النظرة إلى القراءة باعتبارها أحد المصادر اللغوية المعتمدة، وشاهدًا لا يصح النظر إليه بمعزل عن سائر الشواهد اللغوية.
الفريق الأول: حين غلب المقياس الديني- وضع لقبول القراءة شروطًا ثلاثة هي:
1- موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا.
2- موافقة العربية ولو بوجه.
3- صحة سندها واتصال روايتها1.
__________
1 النشر لابن الجزري ص 1- 9.
(1/20)
*************
أما الفريق الثاني -وهو الذي يهمنا - فقد وضع لصحة القراءة شرطًا واحدًا هو صحة الرواية عن القارئ العدل حتى لو كان فردًا، وسواء رويت القراءة بطريق التواتر أو الآحاد، وسواء كانت سبعية أو عشرية أو شاذة.
بل إن ابن جني في كتابه "المحتسب" كان حريصًا على وضع القراءة الشاذة على قدم المساواة مع القراءة السبعية، وذلك في قوله: "إنه نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالرواية من أمامه وورائه. ولعله أو كثيرًا منه مساو في الفصاحة للمجتمع عليه".
وإذا كان اللغويون لم يشترطوا النقل المتواتر في أي نص لغوي؛ فلماذا يشترطونه في القراءة القرآنية. وإذا كانوا قد صرحوا بقبول نقل الواحد إذا كان الناقل عدلًا رجلًا كان أو امرأة، حرًّا كان أو عبدًا1 فلماذا يوضع قيد على قبول القراءة دون غيرها؟ بل أكثر من هذا يصرح السيوطي بأن العدالة وإن كانت شرطًا في الراوي فهي ليست شرطًا في العربي الذي يحتج بقوله.
وإلى جانب عدم اشتراط اللغوي للتواتر لم يشترط اتصال السند ورفعه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- واللغويون بهذا يتعاملون مع القراءة على أنها نص عربي رواه أو قرأ به من يوثق في عربيته على فرض التشكك في نسبة القراءة إلى الرسول.
وبهذا يدخل في باب الاحتجاج اللغوي كثير مما عده القراء من باب التفسير أو الشرح اللغوي.
أما شرط موافقة القراءة لأحد المصاحف للعثمانية؛ فلا يتقيد به اللغوي كذلك. بل هو يرى في هذا الشرط حدًّا من فائدة تعدد القراءات وإضاعة للحكمة من تشريعه، وهي التخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها كما سبق أن ذكرنا.
إن العادات النطقية والقدرة على التلفظ ببعض الأصوات دون بعض إنما ترتبط بالجانب الصوتي لا الكتابي. وإلا فأي صعوبة نطقية تتحقق
__________
1 الاقتراح للسيوطي ص 86.
(1/21)
*************
في أن يقرأ القارئ الكلمة كما قرئت "فتبينوا" أو "فتثبتوا" وأي صعوبة في أن ينطق كلمة "عباد" في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} كما قرأها ابن كثير وابن عامر ونافع وغيرهم "عِنْدَ الرحمن"، أو كما قرأها أُبي وسعيد بن جبير: "عَبْد الرحمن". "بفتح العين وسكون الباء" أو كما قرأها ابن عباس: "عُبَّاد الرحمن" "بضم العين وتشديد الباء"؟ وهل تظهر الحكمة من تعدد القراءات في مثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} ، حينما قرئت "منه" تارة. "مِنّةً" "بكسر الميم وتشديد النون والنصب" وتارة: "مَنُّه" "بفتح الميم وضم النون المشددة والإضافة"، وتارة: "مِنَّة" "بكسر الميم وتشديد النون والرفع".
فإذا كان مثل هذه القراءات يدخل في باب المقبول مع غياب حكمة التخفيف فيها، فلماذا نستبعد قراءات أخرى تبدو حكمة التخفيف واضحة منها لمجرد مخالفتها لرسم المصحف؟ والأمثلة كثيرة على القراءات التي تدخل في باب العادة الكلامية أو الخاصة اللهجية -مما يقبله اللغوي دون تردد- ويستبعده القارئ لمخالفته رسم المصحف مثل:
1- {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْب بِضَنِينٍ} ، التي قرئت: "بِظَنين".
وكلنا يلاحظ التداخل بين صوتي الضاد والظاء حتى في لغة المعاصرين، ورسم المصحف لا يسمح بالتبادل بين الضاد والظاء.
2- قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} ، وقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} فقد قرأهما ابن مسعود على خلاف سائر القراء حين أبدل الكاف قافًا في الأولى فصارت "قشطت" وأبدل القاف كافًا في الثانية فصارت، "تكهر". والصلة الصوتية بين القاف والكاف أوضح من أن تحتاج إلى تعليق، ورسم المصحف لا يسمح بالتبادل بين القاف والكاف.
(1/22)
*************
3- قراءة ابن مسعود: "عتى حين" في: "حتى حين"، وهي خاصة لهجية معروفة منقولة عن هذيل.
4- ومثل هذا يقال عن قراءة: "إنا أنطيناك الكوثر" بدلًا من {أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، وقد قرأ بها كل من الحسن وطلحة وابن محيصن وأم سلمة.
بل إنني أرى أن شرط موافقة القراءة لأحد المصاحف العثمانية قد فتح بابًا دخل منه بعض القراء واللغويين الذين غلبوا جانب الرسم على جانب الرواية، فسمحوا بالقراءة بما يوافق الرسم دون التحقق من صحة الرواية، فسمحوا بالقراءة بما يوافق الرسم دون التحقق من صحة الرواية.
وهذا باب خطير دخل منه كثير من الطاغين في القراءات حين ردوا كثيرًا مما روى منها إلى الاجتهاد في النطق بما هو مرسوم.
ولهذا كان حمزة بن حسن الأصفهاني في كتابه "التنبيه على حدوث التصحيف" حريصًا على أن يوضح أن احتمال الهجاء لا يكفي بل لا بد أن يقرأ بهما لتصيرا قراءتين. أما إذا احتمل الهجاء لفظين ولم يقرأ بهما فلا تصيران قراءتين. وضرب الأصفهاني أمثلة لقراءات وافقت رسم المصحف ولم تصح الرواية فيها فعدت من التصحيف، منها القراءات المنسوبة إلى حماد الراوية، قال الأصفهاني: "وكان حماد الراوية يقرأ القرآن دون رواية فكان يقع في التصحيف"، ومما صحفه، "بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي غِرَّةٍ "بكسر الغين" وَشِقَاقٍ"، بدلًا من {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، وكذلك: "لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُعنِيهِ" بدلًا من "شأن يغنيه".. وغير ذلك.
أما شرط "موافقة العربية ولو بوجه" فلا يرى اللغوي ضرورة له، لأنه أمر متحقق لا محالة حين يتحقق شرط الرواية، ولهذا يقول ابن الجزري: "وقولنا في الضابط: "ولو بوجه" نريد به وجهًا من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحًا، مجمعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة
(1/23)
*************
بالإسناد الصحيح...." وحين أرد بن الجزري أن يمثل لما نقله الثقة ولا وجه له في العربية لم يجد ما يمثل به إلا ما كان من قبيل السهو والخطأ، ومع ذلك عقب بقوله: "وهو قليل جدًّا بل لا يكاد يوجد"1.
ومن الغريب أن نجد من بين المشتغلين بالقراءات من المعاصرين من يحاول إسقاط ما عدا القرءات السبع من الكتب، ويرفض إثباتها أو الإشارة إليها لأي غرض من الأغراض. فأقصى ما يمكن أن يقوله قائل: أنه لا تصح الصلاة بغير المتواتر، لأنه ليس بقرآن. ولكن إذا لم يكن قرآنًا، أليس من وجهة النظر اللغوية البحتة كلامًا عربيًّا فصيحًا؟ وإذا كان يحظر التعبد به أو قراءته في الصلاة، أليس هناك مجالات أخرى لروايته والاستشهاد به؟ يقول القسطلاني2: "إن من قرأ بالشواذ غير معتقد أنها قرآن ولا يوهم أحدًا ذلك، بل لما فيها من الأحكام الشرعية عند من يحتج بها، أو الأحكام الأدبية فلا كلام في جواز قراءتها". وبهذا ينبغي أن تدخل القراءات بجميع درجاتها ومستوياتها في الدرس الأدبي واللغوي دون حرج.
نظرة اللغويين إلى القراءة:
تختلف نظرة اللغويين إلى القراءة باختلاف الغاية من الاستشهاد بها. فإن كانت الغاية إثبات وجود اللفظ في اللغة، أو ضبط نطقه أو ذكر معناه، أو غير ذلك من النتائج الجزئية التي لا تعمم حكمًا ولا تبني قاعدة، إذا كانت الغاية كذلك فلا يهم كثرة النماذج اللغوية الموافقة لهذه القراءة أو قلتها، كما لا يهم أن تكون القراءة هي النموذج الوحيد المنقول إلينا. وقد قبل اللغويون روايات الآحاد بالنسبة لجميع الشواهد اللغوية في مثل هذه الحالة.
__________
1 النشر 1/ 10، 16.
2 لطائف الإشارات ص 73.
(1/24)
*************
أما إذا كانت الغاية من الاستشهاد وضع قاعدة، أو استنباط حكم أن تقنين نمط فإن اللغوي حينئذ يضع القراءة إلى جانب غيرها من النصوص، ويوازن بينها، ويبني القاعدة على الكثير الشائع، سواء كان مقروءًا به، أو غير مقروء، وسواء كانت القراءة متواترة أو غير متواترة، والقراءة حينئذ لا تتميز بوضع خاص، ولا تنفرد بنظرة معينة بالنسبة لسائر المصادر اللغوية. وكيف تتميز والنص القرآني نفسه لم يعط أي ميزة في مجال التقعيد على غيره من النصوص؟
ألم يتوقف اللغويون عند بعض الآيات القرآنية فحفظوها ولم يقيسوا عليها لأنها لم تأت طبقًا للنموذج الشائع في لغة العرب؟
أينا يسمح بأن يقيس المتعلم على الآية القرآنية "إنّ" بنون مشددة "هذان لساحران" فيرفع الطرفين بعد "إنّ"؟ "الآية 63 طه" وهي قراءة نافع وابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي من القراء السبعة.
ومثل هذا يقال عن قراءة معظم السبعة {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} "النساء 162".
فالقراءة إذن في مجال التقنين والتقعيد لا تعزل عن بقية المصادر اللغوية وهي القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر الجاهلي والإسلامي ومأثور النثر من حكم وأمثال وخطب ... وهي توضع مع غيرها في سلة واحدة ويصنف الجميع ويحلل ثم توضع القاعدة على ما تثبت كثرته ويتضح شيوعه واطراده، لأنه هو الذي يمثل اللغة المشتركة أو القاعدة التي يجب محاكاتها والالتزام بها.
ومعنى هذا أن معيار اللغوي ومنهجه يختلف عن معيار القارئ ومنهجه، وأن أي محاولة لفرض منهج القراءة على اللغويين سيعني فرض منهج علم على علم آخر، كما سيظهر اللغوي بمظهر المضطرب أو المتناقض في أقواله وأفعاله.
(1/25)
*************
وعلى هذا فحين يقول اللغويون عن القراءات.
1- "والقراء لم يطالبوا بأن يحملوا القراءة على ما يجوز في كلام العرب بل إن قراءتهم مردودة إلى الرواية" "رسالة الملائكة للمعري".
2- "الرواية تصلها إلى رسول الله، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ "المحتسب لابن جني".
3- "والسلامة عند أهل الدين إذا صحت القراءتان عن الجماعة ألا يقال: إحداهما أجود من الأخرى لأنهما جميعًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيأثم من قال ذلك" "إعراب القرآن للنحاس".
فليس معنى هذا أنهم لا بد أن يقعدوا عليها بصورة مطلقة، وأن يخالفوا أمثلتهم الكثيرة ليبنوا على ما كان منها قليلًا. كما أنه ليس معنى رفضهم التقعيد على بعض القراءات أنهم يرفضون قبول القراءات ككل.
وبهذا يمكننا أن نفهم وجهة نظر اللغويين القدماء الذين استبعدوا من مجال الاستشهاد قراءات سبعية مثل:
1- قراءة ابن عامر: "وَكَذلِك زُيّنَ" -بضم الزاي- "لِكَثِيرٍ مِن الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ" -بضم اللام- "أَوْلادَهِمْ" -بفتح الدال- "شُرَكَائهم" بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول.
2- قراءة حمزة: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ" بالجر على عطف الظاهر على الضمير المتصل دون إعادة حرف الجر. وقد وضح أبو على الفارسي ذلك قائلًا: "وهذا ضعيف في القياس وقليل في الاستعمال، وما كان كذلك فترك الأخذ به أحسن".
(1/26)
*************
3- قراءة نافع: "وَجَعَلْنَا لَكُم فِيْهَا مَعَائِش" بإبداء ياء مفعلة همزة في الجمع، وهي ليست زائدة. وقد قال المازني تعليقًا على هذه القراءة: "أصل أخذ هذه القراءة عن نافع، ولم يكن يدري ما العربية"، وقال الزجاج: "ولا أعلم لها وجهًا إلا التشبيه بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة".
وفي نفس الوقت قبلوا في الاستشهاد قراءات غير سبعية مثل:
أ- قراءة الحسن: "اهبطوا مصر" بمنع مصر من الصرف.
ب- قراءة الحسن: "ولا خوف" بفتحة واحدة "عليهم ولا هم يحزنون".
ح- قراءة الأعمش: "وإن منها لما يهبط" بضم الباء "من خشية الله".
فالنوع الأول وإن حقق شروط القراء لم يحقق شروط اللغويين، والنوع الثاني وإن لم يحقق شروط القراء فقد حقق شروط اللغويين.
مناقشة اللغويين المعاصرين:
أدى عدم تفرقة كثير من اللغويين المعاصرين بين الاستشهاد بالقراءة في مجال اللغة والاستشهاد بها في مجال النحو، وعدم التزام كثير من النحاة بالاستشهاد بالقراءة في مجال النحو رغم تصريحاتهم الكثيرة بأن القراءة سنة، وأن الرواية تصلها إلى الرسول - أدى هذا وذاك إلى التلبيس على كثير من الباحثين وإيقاعهم في الحيرة والاضطراب حين أرادوا التوفيق بين تصريحات اللغويين ومواقف النحاة:
"أ" فالدكتور عبد الفتاح شلبي1 يرى أن موقف قدامى النحاة من القراءات كان موقف مهادنة لأن مدرسة الإقراء ومدرسة النحو
__________
1 رسالته للدكتوراه المعنونة "أبو على الفارسي" - غير مرقمة الصفحات.
(1/27)
*************
نشأتا متصلتين، ثم حينما أخذتا في الانفصال تميزتا حتى بلغ من انفراج الشقة بينهما أن عرض النحاة المتأخرون بمشايخ القراء وضعفهم في العربية.
ونحن لا نستطيع أن نسلم بهذا الرأي بعد أن وجدنا من النحاة الأول من كان يلحن القراء ويتعرض لهم بالنقد والتخطئة.
1- فقد حكى البغدادي في خزانته أن النحاة في عصر أبي عمرو ابن العلاء أنكروا على القراء قراءتهم "وَمَا أَنْتُم بِمُصْرِخِي" بكسر الياء، ففزع أحدهم إلى أبي عمرو بن العلاء قائلًا له: إن أصحاب النحو يلحنوننا فيها، فقال له: هي جائزة أيضًا لا تبال1.
وممن طعن في هذه القراءة من قدامى النحاة الفراء الذي وصفها بأنها من وهم القراء إذ ظنوا أن الباء في "بِمُصْرخي" خافضة للفظ كله، مع أن الياء للمتكلم2. كذلك طعن فيها أبو عبيدة وقال: "نراهم قد غلطوا ظنا أن الباء تكسر لما بعدها". وطعن فيها أيضًا أبو حاتم والأخفش والزجاج وغيرهم3.
2- قرأ نافع وابن عامر: "أَتُحَاجُوني" بنون خفيفة، كما قرأ نافع: "فَبِمَ تُبَشِّرُون". وقد خطأ أبو عمرو بن العلاء القراءتين محتجًّا بأنه لا يقال. "أنتم تقوموا" بحذف نون الأعراب4 كما خطأها
__________
1- خزانة الأدب 2/ 259.
2- معاني القرآن للفراء، ورقة 89، والبحر المحيط 5/ 419.
3- البحر المحيط 5/ 419.
4- إعراب القرآن للنحاس، ورقة 60، 97. وجمهور النحاه على جواز الجمع بين النونين بدون ادغام وبادغام وجواز الاكتفاء بنون واحدة. وقد اختلف النحاة في المحذوف منهما.
"انظر إعراب القرآن للنحاس ورقة 97، وأوضح المسالك 1/ 79 الهامش رقم 1.
(1/28)
*************
أبو حاتم وقال: "هذا يكون في الشعر اضطرارًا"1.
3- قرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: "هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرَ لَكُم"2 بنصب أطهر. وقد قال أبو عمرو بن العلاء في شأن هذه القراءة: "من قرأ: "هُنّ أَطْهَرَ لَكُم" فقد تربع في لحنه"3. وقال الخليل: هذا لا يجوز. وقال سيبويه: احتبى ابن جؤية في اللحن في قوله: "هُنّ أَطْهَرَ لَكُم"4.
4- قرأ حمزة: "ولا يحسبن الَّذِين كفروا سبقوا"، وقد قال النحاس عن هذه القراءة: وما علمت أحدًا من أهل العربية بصريًّا ولا كوفيًّا إلا وهو يمنع أن تقرأ هذه القراءة5.
5- قرأ الحسن وأبو جعفر: "أَنْ نُتخذ مِن دونك مِن أولياء" بضم نون نتخذ، وقد قال عن هذه القراءة أبو عمرو بن العلاء وعيسى ابن عمر: لا يجوز نتخذ، إذ لو كانت كذلك لحذفت "مِن" الثانية فقلت: "أن نتخذ من دونك أولياء"6.
6- قرأ بعضهم: "وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم" ففصل بالمفعول بين المضاف والمضاف إليه. وقد قال أبو حيان عن هذه القراءة: "جمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخروهم"7.
__________
1 البحر المحيط 5/ 458.
2 البحر المحيط 5/ 247.
3 البديع لابن خالويه ص 60، ومجالس ثعلب 2/ 247 والبحر المحيط 5/ 247.
4 إعراب القرآن للنحاس ورقة 87، ومجالس ثعلب 2/ 427.
ووجهة نظر المنكرين أن "هنّ" في الآية لا تصلح أن تكون ضمير فصل لأن ما بعدها فضلة.
5 إعراب القرآن للنحاس ورقة 132، ومعاني القرآن للفراء ورقة 129.
6 إعراب القرآن للنحاس ورقة 133.
7 البحر المحيط 4/ 229.
(1/29)
*************
"ب" والدكتور مهدي المخزومي بقسم النحاة إلى فريقين فالبصريون يلجئون إلى التأويل عند مواجهتهم قراءة من القراءات السبع لا سبيل إلى إنكارها، ويغلطون ما عداها. أما الكوفيون فلهم موقف آخر يغاير البصريين كل المغايرة. فقد قبلوا القراءات واحتجوا بها وعقدوا على ما جاء فيها كثيرًا من أصولهم وأحكامهم. وهم إذا رجحوا القراءات التي يجتمع القراء عليها فلا يرفضون غيرها، ولا يغلطونها، لأنها صواب عندهم أيضًا. كذلك يعد الدكتور المخزومي القراءات المختلفة - حتى الشاذ منها- من مصادر دراسات الفراء، ويقول: إنه لا يني يستشهد بها ويصوبها ويحتج بها1.
"ج" والأستاذ إبراهيم مصطفى يقول: كان في حلب ... مدرسة نحوية عظيمة أسسها أبو عبد الله الحسين بن أشهد بن خالويه "سنة 370" وأبو الفتح عثمان بن جني المتوفي سنة 392. ولهذه المدرسة أسلوب في البحث يتميز بعنايتها بالقرآن وجمع روايته وتوجيه ما سمي منها شاذًّا"2 وقريب منه ما يقوله الدكتور عبد الفتاح شلبي عن ابن جني من "أنه كان أسلم موقفًا من شيخه الفارسي ومن المبرد بتأليفه كتاب المحتسب"3.
ولا يسعنا كذلك أن نسلم بأي من هذه الآراء، فقد اتضح لنا بعد طول البحث والاستقصاء أن موقف النحويين من القراءات موقف موحد لا يختلف فيه كوفي عن بصري، ولا يشذ فيه ابن خالويه أو ابن جني أو غيرهما عنهم. فهم جميعًا كانوا ينقدون القراءة ويقيسونها بمقاييسهم النحوية وهم جميعًا كانوا لا يتورعون عن تخطئة القراءة سواء كانت سبعيه أو عشرية أو شاذة أو غيرها، وهم جميعًا كانوا لا يقطعون القراءة إلا إذا وجدوا لها من كلام العرب نظيرًا، وهم جميعًا كانوا
__________
1 مدرسة الكوفة صفحات 166، 388، 389.
2 المهرجان الألفي لأبي العلاء ص 364، 365.
3 أبو على الفارسي.
(1/30)
*************
لا يتحرجون عن تخطئة القراءة أو تلحينها إذا عجزوا عن فهمها أو توجيهها، لا فرق في ذلك بين من اشتغل بالقراءة إلى جانب النحو أو تخصص للدرس النحوي.
ونعرض من بين القراءات التي خطأها ابن خالويه وابن جني الأمثلة الآتية:
1- قرأ بعضهم: "وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَال" وقد قال ابن خالويه عن هذه القراءة: وإنما يجوز مثل هذا في الشعر كقول الشاعر:
فلو أن واش باليمامة1.
2- ويقول ابن خالويه في قراءة: "سَاحِرَانِ تَظّاهَرَا" بالتشديد: تشديده لحن لأنه فعل ماض وإنما تشدد في المضارع2.
3- ويقول كذلك ابن خالويه في قراءة: "وَلَه أَخّ" بالتشديد: فقال ابن دريد: التشديد لغة وقال ابن خالويه: وأهل العربية يرونه لحنًا.
وغير ذلك3.
4- قرأ الحسن: "وَمَا تَنَزّلَتْ بِه الشَّيَاطُون"، وقد قال عنها ابن جني: "الشياطون غلط"4، على الرغم مما هو ثابت أنها قد سمعت من بعض العرب فقد حكى أبو العلاء المعري في كتابه "عبث الوليد" عن بعض العلماء أنه سمع أعرابيًّا يقول: "هذه بساتون بني فلان"5.
__________
1 البديع ص 25.
2 المرجع ص 113.
3 المرجع ص 25 وانظر كذلك الحجة لابن خالويه ورقة 46 والبديع له ص 35.
4 المحتسب ورقة 118.
5 عبث الوليد ص 226.
(1/31)
*************
5- قرأ يحيى بن عامر: "وإن أدرىَ لعله"، "وإن أدرىَ أقريب" وقد قال ابن جني: "أنكر ابن مجاهد تحريك هاتين الياءين، وظاهر الأمر لعمري كذلك"1.
6- قرأ ابن محيصن: "ثم أطّره" وقد قال ابن جني: "هذه لغة مرذولة"2.
أما القراءات التي خطأها الكوفيون فقد سبقت نماذج منها ونضيف ما يأتي إلى ما سبق:
1- قرأ بعضهم: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" وقد قال عنها الفراء: "وفيه قبح"3.
2 - قال الفراء في قراءة الحسن: "وما تنزلت به الشياطون": "غلط الشيخ"4.
3 استقبح الكسائي قراءة: "بيت طائفة" بادغام التاء في الطاء، مع أنها قراءة أبي عمرو والكوفيين5.
نعم إن الكوفيين كانوا أقل تخطئة للقراءات، وأكثر قبولًا لها من البصريين، ولكن ذلك لا يرجع- في نظرنا- إلى احترامهم للقراءات وحسن تقبلهم لها، وإنما يرجع إلى ما عرفوا به من توسع في أصول اللغة، وقياس على القليل، واعتداد بالمثال الواحد6، فأمكنهم بذلك توجيه كثير من القراءات وتخريجها على مقتضى أصولهم. ومن هنا قلت تخطئتهم لها. وإذا كان الدكتور مهدي المخزومي قد ساق أمثلة قبل فيها الكوفيون.
__________
1 المحتسب ورقة 103.
2 المرجع ورقة 22.
3 معاني القرآن للفراء ورقة 36
4 البحر المحيط 7/ 46.
5 إعراب القرآن للنحاس ورقة 43. وانظر أمثلة أخرى في معاني القرآن للفراء ورقة 110، 177، ومعاني القرآن للنحاس ورقة 178.
6 انظر: من أسرار اللغة ص 11.
(1/32)
*************
بعض القراءات وصححوها1، فإن هذا لا يكفي لإثبات دعواه. وقد ذكرنا أمثلة مضادة تكفي لهدم تلك الفكرة، ولا نزعم أنها كل ما أنكره الكوفيون من قراءات.
وإذا كان الكوفيون -كما يقول الدكتور مهدي المخزومي- يستشهدون بالقراءات فلماذا يحاولون الاستدلال على صحتها بالتماس وجه لها في العربية تخرج عليه؟ ولماذا يخطئون ما يعجزون عن تخريجه؟ وأنت ترى ذلك واضحًا في قول إمام من أئمتهم وهو الفراء: "وقرأ الحسن: "إلا من هو صال الجحيم" فإن كان أراد واحدًا فليس بجائز، لأنك لا تقول هذا قاض ولا رام "بالضم"، وإن يكن عرف فيها لغة مقلوبة مثل عاث وعثا فهو صواب"2 فعلام هذا الترديد؟ ولماذا يتوقف تصحيح القراءة على سماع نظير لها من لغة العرب؟ لقد اشتهر الكوفيون بأنهم يقيسون على المثال الواحد، فلماذا لا يقيسون على القراءة ولو لم يكن لها نظير فيما نقلوه من لغة العرب، ويعتبرونها هي المثال الواحد؟.
إن ترك هذا يعني -في نظرنا- أن القراءة عندهم لا ترقى إلى مرتبة الشاهد في الاستدلال، ويعني كذلك أن القراءة لا يوثق فيها بمفردها، ولا يصح الاستشهاد بها إلا مع سند من كلام العرب وهذا ينفي فكرة استشهادهم بالقراءات واحترامهم لها.
وليس معنى هذا أنهم كانوا يرفضون كل لفظ يرد في القراءات وإنما معناه أنهم كانوا لا يكتفون بالقراءات حين يرد فيها لفظ من الألفاظ بل يدعمونها بنص آخر شعري أو نثري حتى يمكن أن يؤخذ بها.
ونحن لا نعيب على النحاة عدم استشهادهم المطلق بالقراءات ورفضهم بناء اللغة الأدبية المشتركة عليها إلا ما وافق منها الأصول العامة وجرى على النمط العربي الفصيح، فذلك عين الصواب كما سبق.
__________
1 مدرسة الكوفة ص 284 - 395.
2 معاني القرآن للفراء ورقة 160.
(1/33)
*************
أن بينا، وإنما نعيب عليهم وصفهم بعض القراءات بأنه قبيح أو رديء أو وهم أو غلط1. وقد كان في إمكانهم أن يصفوها بأنها جاءت على لهجة محلية أو أقل فصاحة فلا تبني عليها قاعدة، دون أن يطعنوا على القارئ أو يشككوا في صحة القراءة. ونحن لا ندعي -ولا غيرنا- أن القراءات كلها على مستوى واحد من الفصاحة2، فما هي في معظم حالاتها إلا تمثيل للهجات، واللهجات تتفاوت فيما بينها في درجات الفصاحة، ولهذا يقول أبو نصر القشيري: "فإننا لا ندعي أن كل القراءات على أرفع الدرجات في الفصاحة"3.
وقد كان الطبري أكثر توفيقًا في تعليقه على بعض القراءات حين كان يقول: "وأعجب القراءتين إليّ كذا"، وكذلك كان الفراء في تعليقات له مثل "وأنه لأحب الوجهين إليّ"، ومثل: "ولست أشتهي ذلك".
__________
1 من سوء تعبيرهم قول المبرد عن قراءة لأبي عمرو: "هي لحن لا يجوز في كلام ولا شعر"، وقوله عن قراءة أخرى: "لو صليت خلف إمام يقرأ بها لأخذت نعلي ومضيت"، وقول الزمخشري عن قراءة لابن عامر أنها "شيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجًا مردودًا فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في القرآن".
2 لم أجد أحدًا من الباحثين قد وضع القرآن وقراءاته في مستوى واحد من الفصاحة إلا الأستاذ عباس حسن الذي قال: "بعض القراء قرأ: "ما ودعك"، أفيكون هذا شذوذًا في الاستعمال مع قراءة القرآن به، وكيف يتفق القول أن يكون القرآن أسمى لغة عربية بيانية مع اشتماله على الشاذ"؟ "مجلة رسالة الإسلام العدد 3 السنة 10 ص 284". وهو هنا يخلط بين حقيقتين متغايرتين ويثبت لإحداهما ما هو للأخرى.
3 القراءات واللهجات ص 131.
(1/34)
*************
3- الحديث النبوي:
المشهور بين الباحثين أن قدامى اللغويين والنحاة كانوا يرفضون الاستشهاد بالحديث في اللغة، فلا يستندون إليه في إثبات ألفاظها أو وضع قواعدها، يقول الشيخ أحمد الإسكندري: "مضت ثمانية قرون والعلماء من أول أبي الأسود الدؤلي إلى ابن مالك لا يحتجون بلفظ الحديث في اللغة إلا الأحاديث المتواترة"1. ويقول أبو حيان معترضًا على ابن مالك لاستشهاده بالحديث: "على أن الواضعين الأولين لعلم النحو والمستقرئين للأحكام من لسان العرب، والمستبطين المقاييس كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه من أئمة البصريين، وكمعاذ والكسائي والفراء وعلي بن المبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يفعلوا ذلك"2.
وقد حاول المتأخرون أن يعللوا هذا الرفض المزعوم وانتهوا إلى أنه يرجع لسببين: أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى والثاني أنه وقع اللحن كثيرًا فيما روي من الحديث لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع3.
والذي نحب أن نلفت النظر إليه أن هؤلاء القدماء الذين نسب إليهم رفضهم الاستشهاد بالحديث لم يثيروا هذه المسألة، ولم يناقشوا مبدأ الاحتجاج بالحديث، وبالتالي لم يصرحوا برفض الاستشهاد به. وإنما هو استنتاج من المتأخرين الذين لاحظوا -خطأ- أن القدامى لم يستشهدوا بالحديث، فبنوا عليه أنهم يرفضون الاستشهاد به، ثم حاولوا تعليل ذلك.
وهناك أسباب كثيرة تحمل على الشك في صحة ما نسب إلى الأقدمين من رفضهم الاستشهاد بالحديث، بل هناك من الدلائل ما يكاد يقطع -إن لم يكن يقطع فعلًا- أنهم كانوا يستشهدون به ويبنون عليه قواعدهم، سواء منهم من اشتغل باللغة أو النحو أو بهما معا.
__________
1 مجلة المجمع 1/ 299.
2 التذييل والتكميل 5/ 168.
3 خزانة الأدب 1/ 5، 6، والتذييل والتكميل 5/ 168، 169.
(1/35)
*************
ولهذا لا يسع الباحث المدقق أن يسلم بما ادعاه المتأخرون وسنده في ذلك ما يأتي:
1- أن الأحاديث أصح سندًا من كثير مما ينقل من أشعار العرب.
ولهذا قال صاحب "المصباح المنير" بعد أن استشهد بحديث: "فأثنوا عليه شرًّا" على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشر - قال: "قد نقل هذا العدل الضابط عن العدل الضابط عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة، فإنهم يكتفون بالنقل عن واحد ولا يعرف حاله"1.
2- أن من المحدثين من ذهب إلى "أنه لا تجوز الرواية بالمعنى إلا لمن أحاط بجميع دقائق اللغة، وكانت جميع المحسنات الفائقة بأقسامها على ذكر منه فيراعيها في نظم كلامه. وإلا فلا يجوز له روايته بالمعنى"2. على أن المجوزين للرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هي الأولى، ولم يجيزوا النقل بالمعنى إلا فيما لم يدون في الكتب، وفي حالة الضرورة فقط3. وقد ثبت أن كثيرًا من الرواة في الصدر الأول كانت لهم كتب يرجعون إليها عند الرواية. ولا شك أن كتابة الحديث تساعد على روايته بلفظه وحفظه عن ظهر قلب مما يبعده عن أن يدخله غلط أو تصحيف4.
3- أن كثيرًا من الأحاديث دون في الصدر الأول قبل فساد اللغة على أيدي رجال يحتج بأقوالهم في العربية. فالتبديل على فرض ثبوته إنما كان ممن يسوغ الاحتجاج بكلامه، فغايته تبديل لفظ يصح الاحتجاج به بلفظ كذلك5.
__________
1 المصباح المنير مادة "ثني". وانظر مجلة المجمع 3/ 201.
2 ابن علان في "شرح الاقتراح" ص 94.
3 مجلة المجمع اللغوي 3/ 204.
4 تعليق الفرائد للدماميني- باب الفاعل "غير مرقم الصفحات".
5 ابن علان ص 94، تعليق الفرائد- باب الفاعل.
(1/36)
*************
4- أن هناك أحاديث عرف اعتناء ناقلها بلفظها لمقصود خاص، كالأحاديث التي قصد بها بيان فصاحته -صلى الله عليه وسلم- ككتابه لهمدان، وكتابه لوائل ابن حجر، والأمثال النبوية 1.
5- وإذا كان قد وقع في رواية بعض الأحاديث غلط أو تصحيف؛ فإن هذا لا يقتضي ترك الاحتجاج به جملة، وإنما غايته ترك الاحتجاج بهذه الأحاديث فقط، وحمله على قلة ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة2، وقد وقع في الأشعار غلط وتصحيف، ومع ذلك فهي حجة من غير خلاف، وإذا كان العسكري قد ألف كتابًا في تصحيف رواة الحديث، فقد ألف كتابًا فيما وقع من أصحاب اللغة والشعر من التصحيف3.
6 لو صح أن القدماء لم يستشهدوا بالحديث فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به، إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به"4، فقد تكون العلة لتركه "عدم تعاطيهم إياه". وقد ثبت فعلًا أن أوائل النحاة من شيوخ سيبويه حتى زمن تدوين صحيح البخاري لم يكثروا من الاستشهاد بالحديث لأنه لم يكن مدونًا في زمانهم5.
7- على أني وجدت من قدامى اللغويين من استشهد بالحديث في مسائل اللغة كأبي عمرو بن العلاء6 والخليل7 والكسائي8.
__________
1 خزانة الأدب 1/ 6 عن الشاطبي.
2 مجلة المجمع اللغوي 3/ 207.
3 المرجع والصفحة.
4 خزانة الأدب 1/ 5.
5 شرح كافية المتحفظ ورقة 16، وانظر خديجة الحديثي ص 412
6 إعراب القرآن للنحاس ورقة 138.
7 العين 1/ 70- 72 وغير ذلك كثير.
8 إعراب القرآن للنحاس ورقة 72.
(1/37)
*************
والفراء "1" والأصمعي "2" وأبي عبيد "3" وابن الأعرابي "4" وابن السكيت "5" وأبي حاتم "6" وابن قتيبة 7 والمبرد 8 وابن دريد 9 وأبي جعفر النحاس10 وابن خالويه11 والأزهري 12 والفارابي 13 والصاحب بن عباد 14 وابن فارس 15 والجوهري 16 وابن سيده 17 وابن منظور والفيروزأبادي وغيرهم. ولا يختلف موقف النحاة عن هذا، إذ لا يعقل أن يستشهد الخليل مثلًا بالحديث في اللغة، ثم لا يستشهد به
__________
1 معاني القرآن للفراء ورقة 40، 85.
2 الأضداد للأصمعي ص 12، 23، 27.
3 إعراب القرآن للنحاس ورقة 173، والغريب المصنف لأبي عبيد ص 118، 478.
4 إعراب القرآن للنحاس ورقة 167.
5 الأضداد لابن السكيت ص 167، 172، والقلب والإبدال له 31.
6 الأضداد لأبي حاتم ص 36، 136، والمخصص لابن سيده ص 40.
7 المسائل والأجوبة لابن قتيبة ص 8.
8 إعراب القرآن للنحاس ورقة 200.
9 الجمهرة 1/ 16، 18، 21، 25، 26، 27، 31، 33، 34، 43، 44، 45، 48، 50،.... إلخ.
10- شرح المعلقات للنحاس ورقة 72، ومعاني القرآن له ورقة 44.
11 "كتاب ليس" لابن خالويه ص 5، 6، 11، 24، 40، 41، 50، 67، 74، 77، 83، 157، 163 ... إلخ.
12 1/ 30، 33، 38، 42، 57، 68، 86، 88، 94، 98، 100، 113 ... إلخ.
13 انظر ديوان الأدب 1/ 73، 138، 139، 153، 201، 211.
14 المحيط للصاحب بن عباد 3/ 9، 17، 21، 66، 69، 89، 92، 123، 125، 127، 151، 178.... إلخ.
15 مقاييس اللغة 1/ 14، 16، 24، 41، 43، 44، 54، 55، 63، 65 ... إلخ.
17 المخصص 1/ 18، 22، 40، 48، 50، 60، 77، 108، 160 ... إلخ.
(1/38)
*************
في النحو، وهما صنوان يخرجان من أصل واحد، وممن استشهد بالحديث من النحاة: أبو عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه 1 والفراء 2 والكوفيون 3 والمبرد4 والزجاجي والزمخشري5 وابن خروف6 وابن الخباز7 وابن مالك8 وابن عقيل9 وابن الدماميني 10 والأشموني11 والسيوطي وغيرهم وغيرهم 12 وفاقهم في ذلك كل ابن مالك وبلغ الذروة في كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" حيث عقده للأحاديث التي يشكل إعرابها، وذكر لها وجوهًا يستبين بها أنها من قبيل العربي الصحيح. بل إن ابن الضائع "13" وأبا حيان14 وهما على رأس من رفض الاستشهاد بالحديث لم تخل كتبهما من
__________
1 وقد استشهد بثلاثة عشر حديثًا في الكتاب "انظرها في موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث لخديجة الحديثي ص 53 وما بعدها وص 67".
وانظر خديجة الحديثي ص 42، 43، 46، 50.
2 شرح المفصل لابن يعيش 4/ 103، والإنصاف 2/ 300.
3 الإنصاف 2/ 300، 303، 367،368.
4 احتج المبرد في المقتضب بالحديث في ثلاثة عشر موضعًا "انظر خديجة الحديثي ص 97".
5 شرح الجمل لابن عصفور ورقة 65، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 7، 31، 4/ 6، 153، وخديجة الحديثي ص 111.
6 تنقيح الألباب في شرح غوامض الكتاب لابن خروف ص 38.
7 شرح ألفية ابن معطي لابن الخباز ورقة 30، 71، 79، 100.
8 انظر كتابه شواهد التوضيح، في أماكن كثيرة.
9 شرحه على الألفية 1/ 58، 293، 538، 547.
10 حاشية على المغني ورقة 22، 23.
11 شرح الأشموني 1/ 82، 85، 96، 119، 183، 204، 225، 266، 292، 322، 400.
12 همع الهوامع 1/ 40، 171، 223، 2/ 25. وانظر استشهادات الزجاج وابن السراج وابن الأنباري وابن النحاس وابن درستويه وابن خالويه وابن علي الفارسي والرماني وابن حني. ... في خديجة الحديثي ص 98 وما بعدها.
13 شرح الجمل لابن الضائع "غير مرقم الصفحات" باب الاستثناء، باب الاختصاص، باب لولا.
14 التذييل والتكميل في شرح التسهيل لأبي حيان 1/ 4، 139.
(1/39)
*************
بعض الحديث. وقد فطن إلى هذا ابن الطيب الفاسي فقال: "بل رأيت الاستشهاد بالحديث في كلام أبي حيان نفسه مرات ولا سيما في مسائل الصرف"1. ولكن إحقاقًا للحق أقول: إن شواهد النحاة من الحديث ليست في غزارة شواهد اللغويين وكثرتها. فهي قليلة بالنسبة إليها وبخاصة عند قدامى النحاة. وقد رأينا كيف أن سيبويه لم يستشهد إلا بثلاثة عشر حديثًا فقط.
8- وقد وجدت في "المزهر" للسيوطي نصًّا يؤيد ما ذهبت إليه، فهو يقول: "قال أبو الحسن الشاري: ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذر الخشني وأبي الحسن بن خروف أن الزبيدي أخل بكتاب العين كثيرًا لحذفه شواهد القرآن والحديث وصحيح أشعار العرب منه ... ولما علم بذلك الإمام ابن التياني عمل كتابه "فتح العين" وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة ... دون إخلال بشيء من شواهد القرآن والحديث ... "2.
فهذا صريح في أن الخليل كان يستشهد بالحديث في كتابه "العين". ولم يكن الخليل بدعًا من اللغويين، فما صنعه الخليل صنعه غيره من أئمة اللغة.
9- وقد انتهى ابن الطيب الفاسي إلى نفس النتيجة التي انتهيت إليها إذ قال: "ذهب إلى الاحتجاج بالحديث الشريف جمع من أئمة اللغة منهم ابن مالك وابن هشام والجوهري وصاحب البديع والحريري وابن سيده وابن فارس وابن خروف وابن جني وابن بري والسهيلي....
__________
1 شرح كفاية المتحفظ ورقة 16. وقد حصرت الدكتورة خديجة الحديثي لأبي حيان في كتابيه ارتشاف الضرب، ومنهج المسالك ثمانية وعشرين حديثًا انفرد في الاحتجاج بها، وبنى عليها حكمًا جديدًا أو معنى جديدًا أو استعمالًا جديدًا "ص 339، 363".
2 المزهر 1/ 88.
(1/40)
*************
وغيرهم ممن يطول ذكره. وهو الذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه. على أنا لا نعلم أحدًا من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في "شرح التسهيل"، وأبو الحسن بن الضائع في "شرح الجمل" وتابعهما ... السيوطي"1.
10- كذلك انتهت الدكتورة خديجة الحديثي إلى ما انتهيت إليه وأرخت بداية الاحتجاج بالحديث النبوي بأبي عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه2.
وإذن فقد كان المتأخرون مخطئين فيما ادعوه من رفض القدماء الاستشهاد بالحديث، وكانوا واهمين حينما ظنوا أنهم هم أيضًا برفضهم الاستشهاد بالحديث إنما يتأثرون خطاهم وينهجون نهجهم. ونحن نحمل ابن الضائع وأبا حيان تبعة شيوع هذه القضية الخاطئة، فهما أول من روج لها ونادى بها3، وعنهما أخذها العلماء دون تمحيص أو تحقيق، ثقة في حكمها أو تخففًا من البحث وركونًا إلى الراحة والتماسًا لأيسر السبل.
ولعل منشأ تلك الفكرة الخاطئة ما يأتي:
1- أن القدماء لم ينصوا على الاستشهاد بالحديث واكتفوا بدخوله تحت المعنى العام لكلمة "النصوص الأدبية القديمة" ثم حين جاء من تلوهم ودونوا هذه الفكرة كانوا يفهمون ذلك فلم يخصوا الحديث بنص مستقل، فلما جاء ابن الضائع وأبو حيان وغيرهما، ولم يجدوا نصًّا مستقلًّا يعد الحديث من مصادر اللغة ظنوا أن القدماء لم يكونوا
__________
1 شرح كفاية المتحفظ ورقة 15.
2 موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث ص 78. وقد جمعت المؤلفة لمن يسمون بنحاة ما قبل الاحتجاج سبعة وثمانين حديثًا نبويًّا، وتسعة وعشرين حديثًا مرويًّا عن آل البيت والصحابة1 ص 189".
3 المرجع والصفحة، والتذييل والتكميل 5/ 168، 169، وخزنة الأدب 1/ 5.
(1/41)
*************
يستشهدون به وسجلوا هذا الظن على أنه حقيقة واقعة. وجاء من بعدهم فنقلوا عنهم دون تمحيص وتابعوهم من غير بحث.
ويؤيد هذا الافتراض أن السيوطي1 استنبط من قول بعضهم:
"النحو علم يستنبط بالقياس والاستقراء من كتاب الله تعالى وكلام فصحاء العرب" أن اللغويين لم يكونوا يستشهدون بالحديث، فعقب على ذلك بقوله: "فقصره عليهما ولم يذكر الحديث".
2- أن سيبويه في احتجاجه بالحديث لم يكن يقدم له بما يوضح أنه من الحديث، فالتبس الحديث بغيره على الباحثين حتى نسب إليه أبو حيان وغيره عدم الاحتجاج بالحديث. وربما كان السبب في إغفال سيبويه للنسبة أنه كان يحتج بالحديث بأي عبارة منثورة من كلام العرب الفصحاء ... ولم يكن إغفاله النسبة إلى النبي خارجًا عما فعله مع معظم الشواهد الشعرية والنثرية التي لم يهتم بنسبتها إلى شخص معين2.
__________
1 الاقتراح ص 18.
2 خديجة الحديثي ص 78، 412.
(1/42)
*************
4- الشعر:
لاقى الشعر اهتمامًا كبيرًا من اللغويين واعتبروه الدعامة الأولى لهم حتى لقد تخصصت كلمة الشاهد فيما بعد وأصبحت مقصورة على الشعر فقط. ولذلك نجد كتب الشواهد لا تحوي غير الشعر ولا تهتم بما عداه.
وقد كان اللغويون يستشهدون بالشعر المجهول قائله إن صدر عن ثقة يعتمد عليه. ولذا اعتبروا الأبيات التي وردت في كتاب سيبويه أصح شواهد اعتمد عليها خلف بعد سلف مع أن فيها أبياتا عديدة جهل قائلوها1. وقد كان سيبويه يحرص على إطلاق البيت من النسبة فكان إذا استشهد ببيت لم يذكر ناظمه. وإنما امتنع سيبويه عن تسمية الشعراء "لأنه كره أن يذكر الشاعر وبعض الشعر يروي لشاعرين، وبعضه مجهول لا يعرف قائله لأنه قدم العهد به". وأما الأبيات المنسوبة في الكتاب إلى قائليها "فالنسبة حادثة بعده، اعتنى بنسبتها الجرمي. قال الجرمي: نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا. فأما الألف فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما خمسون فلم أعرف أسماء قائليها"2.
بل إن اللغويين والنحاة قد صرحوا بأن تعدد الروايات في البيت الواحد لا يسقط حجيتها، وأن كل رواية -ما دامت قد نقلت عن ثقة- يصح الاستشهاد بها. يقول ابن ولاد: "الرواة عن الفرزدق وغيره من الشعراء قد تغير البيت على لغتها وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها. ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد ... ولغة الرواة من العرب في البيت الواحد يجعل كل رواية حجة إذا رواها فصيح، لأنه يغير البيت إلى ما في لغته، فيجعل ذلك أهل العربية حجة"3.
وحديثنا عن الشاهد الشعري يجرنا إلى الحديث عن قضية "الضرورة الشعرية" أو ما يسمى "بضرورة الشعر" حينما يحاول اللغوي أو النحوي أن يستبعد البيت من مجال الاستشهاد. فما حد هذه الضرورة؟ ومتى يكون الشاعر مضطرًّا اضطرارًا يسقط حجية الاستشهاد ببيته؟ لقد اختلف النحاة في ذلك إلى فريقين: ففريق يرى -وهو جمهورهم-
__________
1 خزانة الأدب 1/ 8، 178.
2 خزانة الأدب 1/ 8، 78. وانظر مقال الدكتور رمضان عبد التواب: "أسطورة الأبيات الخمسين".
3 الانتصار لابن ولاد ص 19، 193.
(1/43)
*************
أن الضرورة هي "ما وقع في الشعر مما لم يقع في النثر سواء أكان للشاعر غنه مندوحة أم لا"1.
ومذهب ابن مالك -وهو الصحيح عن سيبويه- أنها "ما ليس للشاعر مندوحة عنه"2. ويبين أثر هذا الخلاف فيما جاء في الشعر ووجدت فيه المندوحة، فالجمهور يقصره على السماع، وابن مالك يقيس عليه. "ولذلك أجاز وصل ال بالمضارع قليلًا، ولم يجعله ضرورة استدلالًا بقوله:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
لتمكنه من أن يقول: "المرضي حكومته"3. وحيث لم يقل ذلك مع الاستطاعة، ففي ذلك، أشعار بالاختيار وعدم الاضطرار"4.
وكأني بأصحاب المذهب الأول قد وسعوا في مدلول الضرورة، وأطلقوها دون قيد لتكون سيفًا مصلتًا، وسلاحًا يشهرونه في وجه كل بيت يخالف قواعدهم ويعجزون عن تخريجه؛ فيجدون المخلص في هذا الوصف السهل يلقونه دون نظر أو تفكير.
وكأن ذلك لم يكفهم فرموا بعض الأبيات بالضرورة، لا فرارًا من الإخلال بالوزن أو القافية، بل فرارًا من الزحاف، وهو ما تأباه النظرة الفاحصة المتأنية.
ولهذا نجد أبا العلاء المعري في كثير من كتبه -وقد كان ذا نظرة تحررية- يهاجم رأي الجمهور وينصر مذهب الأقلية، ولا يترك فرصة للذود عنه والانتصار له إلا انتهزها فهو يرى أن الزحاف لا يحمل الشاعر على ارتكاب ضرورة، فهو كثير في الشعر، وبخاصة في بعض الأوزان.
__________
1 موطئة الفصيح لابن الطيب الفاسي، ورقة 19، 20، والضرائر للألوسي ص 6.
2 موطئة الفصيح ص 19، 20.
3 موطئة الفصيح ورقة 20.
4 خزانة الأدب 1/ 15.
(1/44)
*************